البحث عن وطن ؛ سيرة مواطن عماني عاش الغربة والإغتراب
(By زهران الصارمي) Read EbookSize | 20 MB (20,079 KB) |
---|---|
Format | |
Downloaded | 570 times |
Last checked | 7 Hour ago! |
Author | زهران الصارمي |
“جلس شمسان خلف قضبان زنزانته بتلك القلعة الأثرية المبنية منذ الغزو البرتغالي لعمان في القرن الخامس عشر (1587 م)، القلعة التي تحمل اسم بانيها من القواد البرتغاليين، “الجلالي” ذلك المكان الرهيب، الواقع على ارتفاع أربع مئة متر وسط البحر، والمكتوب على مدخله “الداخل فيه مفقود، والخارج منه مولود”.
ومن هذا المشهد ستتناسل الولادات والإماتات، العذابات والعذوبات. ومعها ستتراصّ الأحلام القتيلة في ذات الزنزانة مع الأشواق والآهات الكاوية، وسيتعايش “الحريق الثوري” المشتهى مع زمهرير الهزيمة المدويّة. هذا اختصار الكتاب “البحث عن وطن: سيرة مواطن عُماني عاش الغُربة والاغتراب”. وأما الكاتب فهو مناضل مِقدام، تجرأ على كسر أقفال ذاكرة جدلية: عن الثورة والثوار، الذين مثلما أشعلوا المنطقة بالأفكار والآمال من ظفار وحتى الكويت في الفترة من (1965-1975)؛ شبّت في دواخلهم وأعمارهم نيران النبذ والخذلان. ثم، ها هو سعير النسيان يُحيل كل ذلك إلى رماد، إلا من محاولات كالتي اجترحها صاحب هذه السيرة، إخلاصاً ووفاءً للدم وللتراب.
تستدعي هذه المروية تغريبة مُغيّبة تماماً عن أحداث وشخصيات الحركة الوطنية العُمانية المعاصرة. مروّية، تكافح المرويّة السائدة للمنتصر على الميدان، وتبارز ببسالة أمام بوابات آخر الحصون المتصارع فيها ولأجلها: الذاكرة، تكتسب هذه السيرة قيمتها القصوى كونها من الداخل: من داخل سجن الجلالي، الأسطوري في المخيلة العمانية، حاصيةً قيوده، مُعرّيةً زنازينه الصخرية السحيقة، مُسجلّة أصوات الأرواح الغائبة فيه، ومُخلّدةً الأرواح الثائرة عليه. سيرة ليست ثمينة لأنها تُضيء أكثر زوايا الذاكرة الجمعية إعتاماً، فحسب، بل ولأنها تنطوي على شجاعة قلّ نظيرها في الاعتراف، وبراعة ندُرَ مثيلها في الكتابة عن الآلام والانكسارات والضياعات والتناقضات، لا في ميادين النضال في سبيل الوطن والكرامة، وإنما في عرصات البحث عن الذات والحب والجمال. وكأن شأنُ كاتبها شأن طرَفة بن العبد من لا يقينه في البقاء وإيمانه بالخلود في المانيفستو العريق:
أرى العيش ناقصاً كل ليلةٍ وما تنُقصُ الأيامُ والدهر يَنفدِ
لعمرُك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطِوَل المرخى وثِنياه في اليدِ.
لم يرد “شمسان” الصارم، الهُمام، أن يصنع مسراته من الدروب السهلة، ولا من الاقتعاد واجترار الكلام. لاذ بسفوح المماشي الوعرة، موتاً من الوفاء.
ولأنه ذاب مبكراً في حزن البلاد، ودافع عن كنوز غير منظورة، كنوز من بشر وقيم وأفكار، كان هو الحقيقة في ثنايا السر. وحينما لازمه الموت رفيقاً أميناً عند أكثر من منعطف، وانشغل الجميع بالمجد القصير الذي سينطفئ؛ كان يدّخر كل نَفَس ليكتب الكلمة. فقط، هكذا وبكل بساطة، مُخلصاً ملتزماً بالكلمة في وجه الفناء، حتى يُزهر في الحياة كما يليق بها ويجدر به: “كان يؤمن، بحتمية الصراع الطبقي بين فئات البشر، لاختلاف مبادئها أو مصالحها، وبحتمية القتال فيما بينها، ولكنه حتى القتال، كان يراه ويعتقده كقتال الفرسان النبلاء، فيه شرف، وفيه عزة وكرامة، لكل من القاتل والمقتول، كان يعتقد حتى اللحظة، أن العداوة والقتال لا تعني أن يتجرد الإنسان من إنسانيته وخلقه وضميره”.
تستلّ هذه السيرة مكانتها الخاصة من غمد النسيان لأن ظروف معايشاتها ومكابداتها تنغرس في عمق ثقافة عمومية محافظة، وذاكرة جمعية حرون. مستسلمتان بكليّتهما، حتى اللحظة على الأقل، إلى بنىً سلطوية ضاربة بجذورها في الغائر والعميق. تطمئن للسائد، وتجافي خِصال الاعتراف والكلام بصوت فصيح وأفكار متماسكة.
ولأن كاتب هذه السيرة ثوري التكوين والمسلك والتطلعات، في فهمه للحياة والوجود، وليس ثائراً على وضع عابر أو حرمان ضيّق؛ لأنه الثوري هذا لا الثائر ذاك؛ جاء المحصول وفيراً في كل شيء: في الوجع كما في الأمل، في الدم كما في الرماد، في الخسارة كما في العشق.
سيرة بهذا الوزن ستكون مناسبةً للفرح بالقدر الذي ستكون في حد ذاتها ثقباً في القلب. فبحجم البهجة التي ستُزهر داخل أجيال مغيّبة عن ذاكرتها الوطنية القريبة، بقدر ما ستصدم ذوي قُربى ورفاق وخصوم؛ ظلّوا إلى ما قبل نشر هذه السيرة مطمئنين إلى ماضٍ انطوت صفحاته، وحاضر مفتوح على كل جراحات الحياة.
بركان من الأسئلة تفجّرها قراءة هذه السيرة. بحممها وحميميتها. أسئلة لا تُسلمك إلى أية إجابات، على العكس؛ تشعل في الجوف حرائق عن حقيقة الإنسان، عن الأفكار الميتّمة باكراً، عن أحلام مغدورة وأروح متلألئة في غياهب الظلم والقمع والحرمان. قراءة سيرة كهذه، تُجفِّف الحلق عطشاً لمزيد من الشهادات والسير والاعترافات. سيرة كهذه لا تُقرأ للتسلية ولا للترويح عن الذات، ولا لتزجية الوقت. هي بحق “ضربة فأس ضد البحر المتجمد فينا” كما أشار كافكا. لأنها تترك قارئها معلقاً بين هشيم الحلم الآفل، وشرارة التفاصيل المرعبة.
نهر الأب، صخب الرفاق، موسيقا السلاح، دماء الأشجار، زغب الشهوات، ذؤبات الضمير، بشاعة القرب. وغيرها الكثير، من الصور والمشاهد مما لا يُقاس أثره، لا الآن، ولا في القادم: “سعى شمسان، وهو يجر قدميه جراً، للقاء رفاقه المحكومين بالإعدام، كان اللقاء مؤلماً وحزيناً، ولكن بلا دموع، فقد تحجر الدمع في المآقي، وأصبحت النظرات تتحدث بما تعجز عن قوله أو وصفه الألسن والكلمات. فهذه الكوكبة من شباب الوطن سيمضون عما قريب في مواكب الشهداء، لكنهم بدمائهم الطاهرة الزكية سيضيئون دروب النضال للأجيال القادمة؛ فلن تذهب أرواحهم سدى”.
يتقرّأ المؤرخ والناقد الفلسطيني إحسان عباس في كتابه “فن السيرة” أحوال الناس مع أزمانها فيقول: “الناس مهما يطل عليهم الأبد وتختلف أحوالهم هم أحد رجلين: رجل وصل إلى حيث يؤمِّل وانتصر على الحياة وصعابها، وأحسن التخلص من ورطاتها وشعابها، ورجل كافح حتى جرحته الأشواك وأدركه الإخفاق. وكلا العاملين، أعني الوصول والخيبة، يبلغان بالتجربة حد النضج على شرط واحد: هو اكتمال التصور لأطراف هذه التجربة ورؤيتها عند التطلع إلى الماضي، على أساس نظرة ذاتية خاصة، ولولا هذا الشرط لكان كل إنسان قادراً على أن يكتب سيرة حياته.”
من هنا، كانت سيرة المواطن العماني زهران زاهر الصارمي اكتمالاً لتصوره لذاته في المكان والمكانة: تفانٍ لأجل كرامة إنسانية راسخة، في حياة قاسية بخلت وما زالت على أمثاله لبلوغ المرتجى. لكنه باغت هذه الفانية بضربة نجلاء، على خلاف الآخرين، عندما قرر أن يجلس، ويغالب آلامه، ويكابد أشواقه، ويستعيد ذكرى أحلامه وأحبابه ورِفاقه، ويكتب.
يكتب، رغماً عن الدموع والدماء والخسران، والنشيج والنسيان؛ علّ الدهر ينصف الأحرار حقهم.
زهران زاهر الصارمي: “البحث عن وطن“
دار رياض الريّس، بيروت 2020
519 صفحة.
المقالة لسعيد بن سلطان الهاشمي”